الخميس، 9 فبراير 2012

رسالة إلي التيارات الدينية في السودان

(1)

من الغباء أن يتشاغل الطبيب،في قسم الطوارئ،عندما تدخل عليه حالة مرضية طارئة،بإبداء ملاحظات علي ملابسها بأنها غير لائقة وفيها مخالفة للذوق العام،ويخالفه طبيب آخر وجهة نظره بأنها تشرب الخمر ويجب معاقبتها أولاً.. بينما حال المريض تستمر في التدهور،دونما نقاش جاد وإجراءات عملية لإسعافه حياته. فأي أطباء هؤلاء يتشاغلون عن لب مهنتهم بتفاصيل لا تضر ولا تنفع حينها؟!.
لن ابالغ لو قلت إن التيارات الدينية السودانية في تعاملها مع قضايا المجتمع الرئيسة،هي تماماً مثل هذان الطبيبين،وأخص الصوفية بدرجة أقل،والسلفية بدرجة أكبر.مع استبعاد الأصوات المعتدلة من الجانبين من الإتهام.

حادثة الإشتباكات إبان إحتفالية الناس بالمولد- في ساحة امدرمان أواخر الأسبوع الأخير من يناير- بين صوفية وسلفيين(أنصار السنة) ، ومانتج عنها من عنف لفظي وجسدي،وجرحي وحريق،بسبب نقاشات وتبادل تهم وسباب حول "مشروعية من حرمة الإحتفال بالمولد، وحول عقائد الفريقين صحتها من خطائها.هذه الحادثة مؤشر واضح لإنحراف تلك التيارات عن ميدان عملها المفترض،وغرقها في أشياء لا تضر ولا تنفع.بينما الوطن والمواطن يعانيان صعوبة لقمة العيش و يمران بأزمات إقتصادية وسياسية، تدهوراً في التعليم والصحة، ويعانيان ظواهر مجتمعية تفتك بنسيجه.
(2)
إننا امام جريمة "إهدار للموارد" البشرية والمادية-نعم جريمة- في قضايا أقل من ثانوية.وتكمن الجريمة في حجم ما توظفه الطائفتين من بشر وأوقات ومطبوعات وندوات ونشاطات وأموال عينية في إثبات بطلان عقيدة بعضيهما البعض.فريق يتهم الآخر والناس بعقيدة الشرك ويري أنهم غير موحدون،والآخر يتهمة في صحة حبه لرسوله وإتباعه سنته.والفريقين ينفخان في فراغ ملأآن.فقضية التوحيد محسومة في قلب كل سوداني-ومسلم- الآن ،حتي العصاة الذين لا يصلون ويقارعون الخمر موحدون،وحتي المنتسبين إلي الشيوعية واليسارية والليبرالية والعلمانية من بني جلدتنا لا يختلون ألا إله إلا الله(كونهم ينتسبون لتلك الأفكار لا ينفي إسلامهم وتوحيدهم). إنها الجريمة بحق: أن نهدر الموارد،ونصرف الدين إلي قضايا فرعية سكَتَ عنها الشارع الديني وتركها للناس !.فليس علي من في إحتفل بمولد المصطفي -صلي الله عليه وسلم - منكر ، ولا علي من في تركه منكر. ولتتجه تلك التيارات إلي القضايا الحقيقية للناس.
(3)
ليت تلك الإشتباكات كانت بسبب الضغوط الإقتصادية التي تفتك بالمواطن السوداني من تضخم وغلاء وبطالة وتدهور!،وليتها كانت في احتجاجاً علي الكبت السياسي والامني والتضييق علي الحريات ، والحرية من جوهر الإسلام!،وليتها تساهم في رفع للمنحني الثقافي الخطر الذي تمر به أجيال البلاد الآن!، ليت تلك الطاقات تحركت للضغط لأجل إصلاح التعليم والصحة !،ولماذا لم تحرك الطائفتان ساكناً ضد ظروف البأس التي يعيشها الناس في ولايتي النيل الازرق وجنوب كردفان؟..ليتها-التيارات الدينية- تواكب وتساير الحياة ولاتكون عقبة أمام تيار تجددها وتطورها، وليتها تهتم لما يهم الناس ويعنيهم بحق، وذاك منهج النبي صلي الله عليه وسلم لو تأملنا سيرته،وهاكم مثالين:
(4)
الأول أنه عندما بُعِثَ النبي الكريم وجد ظاهرة إجتماعية سيئة تتمثل في ازدراء النساء باعتبارهن عاراً ووأدهن حيَّات،وحرمانهن من الميراث،وبالزواج منهن بطرق تنتهك كرامتهن.فشرع النبي صلي الله عليه وسلم-بمعونة الوحي- يحارب تلك الظاهرة، فقال أحاديث كثيرة تحث علي إكرامهن وحسن معاشرتهن، كما وصفهن بالقوارير في إشارة للرقة في معاملتهن،ونزل الوحي بإثبات حقهن في الميراث وتحريم وأدِهنَّ،كما حدثهم النبي بثواب من يعتني بهن،فما لبثت ثقافة ازدرائها والإشمئزاز إلي وتحولت إلي تكريم وحماية في نفوس المجتمع.ومما قال ورواه بن عباس: مَنْ وُلِدَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا يَعْنِي الذُّكُورَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ..إنتهي.وهاهو يوماً يحدثهم يوماً فقال-فيما يرويه ابو هريرة: مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهِنَّ وَسَرَّائِهِنَّ وَضَرَّائِهِنَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُنَّ ، قَالَ رَجُلٌ : وَابْنَتَانِ ؟ قَالَ : وَابْنَتَانِ ، قَالَ رَجُلٌ : وَوَاحِدَةٌ ؟ قَالَ : وَوَاحِدَةٌ .إنتهي.. أنظر مدي التغير ! من شعور بالعار من البنات،صرن بوابة للجنة وكثرتهن وقلتهن مرغوبة !.وعشرات الأحاديث الأخري.إنها قضية مهمة،لذا وجدت اهتماماً يناسبها.
(5)
ومثال ثانٍ أنه لما دخل المدينة مهاجراً، سبقه وخلفه مهاجرون كثر، وهذا سينتج عنه مشكلة أنهم سيحتاجون لمأوي ومصدر عيش، وتركهم هكذا دون سياسة إقتصادية سريعة سيؤثر حتي علي سكان المدينة وسينهك إقتصادهم. وكذلك من الناحية الأمنية الخارجية لا بد من تأمين الحدود،وداخلياً لا بد من العمل علي سلام مجتمعي،فربما تحدث صدامات بين الوافدين الجدد –المهاجرين-وأهل المدينة، فغريزة أي مجتمع انه يقاوم لا إرادياً أي وافد جديد،وقد يستغل يهود المدينة تلك الصراعات لتزكية نارها إن حدثت.فاخترع صلي الله عليه وسلم "الموأخاة" لحل الإشكال الإقتصادي المتمثل في الغذاء والمأوي للمهاجرين،وياله من إختراع ذكي،وقال حديثاً هو بمثابة سياسة أمنية وإقتصادية في آن،لمنع الصدام المجتمعي فقال: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ )) [ رواه الترمذيّ وابن ماجه واللفظ له]
فإذا ما تبادل المهاجرين ومجتمع المدينة السلام وتواصلت المدينة في أرحامها،قلَّت إحتكاكاتهم ووقع الود في القلوب،وإطعام الطعام هو حث لأهل المدينة ليطعموا المهاجرين حتي يتسني لهم توفيق أوضاعهم، وصلاة الليل تصفي القلوب وتجعلها أكثر سلاما فيزيد السلم المجتمعي، ويكون قائمي الليل بمثابة حراس للمدينة ينبهونها لأي طارئ أو غارة قد يحدثان.كما أنه سارع لإبرام "وثيقة المدينة" لتنظيم التعامل مع اليهود وقبائل العرب المجاورة لمدينة،وتوضيح قضايا الموطنة، وذلك لإستتباب الأمن وتأمين الحدود.وشرع سياسات لتنظيم السوق والتجارة(لا يبيع حاضرٌ لبادٍ، ومنع الغش،ونزل الوحي بتحريم الربا كما حدث هو أحاديث تحرمه)..إنه لم يبدأ وقتها بالحجاب أو بتفاصيل تقل أهمية.والأمثلة كثير..إنه منهج النبي الكريم ومنهج الإسلام: تلمس مشكلات المجتمع الرئيسة وتقديم حلول عملية، وترتيب حاجاته ترتيباً منطقياً ليس فيه تقديم ولا تأخير.
(6)
لا أقول أن علي الجماعات أن تشرع أحاديث،فليس من حقها، ولكن عليها توسيع خطابها الديني ليتجاوز أمور العقائد المحسومة في قلب كل مسلم وعقله،والحدود والعقوبات والعبادات،ليدلف إلي تلمس مشاكل الناس الحقيقية، والمساهمة في إنتاج حلول عملية لها، التي تعنيه وتؤثر في معاشه وأمنه وحاضره ومستقبله.تماماً كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم..ليتهم يعيدون تدبر الإسلام ،والقرآن ، وسنة وسيرة النبي صلي الله عليه وسلم،وليتهم يعيدون قراءة التأريخ الإسلامي،فيجتنبون أخطاءه ويأخذون نجاحاته.
زرياب العقلي – 5 فبراير 2012م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق