الثلاثاء، 20 يوليو 2010

ممنوع التصوير

هل سبق وأن كنت في تواصل مع شخص ما من غير أن تكون سبقت لك رؤيته؟ ثم مع كل مرة تتواصل فيها معه صوتياً(بالهاتف مثلاً) تقوم بوضع صورة له في مخيلتك فترسم له وجهاً وهيئة إفتراضية تستمتتع بإستدعائها كل حين؟..لكنك صدمت عندما رأيت صورة هذا الشخص حقيقة , وتقلصت تلك الصورة الجميلة التي كنت رسمتها , وفقدت كثيراً مما كنت تشعر به تجاهه من قبل؟..نعم يحدث لنا هذا جميعاً وبأشكال مختلفة..فياتري ما السبب؟؟
(1)
إنها الكاميرا وظاهرة (التجسيد المادي) التي غزت حياتنا فزاحمت المخيلة وعززت من دور (العينين) علي حساب الاذنين والمشاعر) , فكل الاشياء تاخذ كامل هياتها ويكتمل شعورنا تجاهها فقط عندما نراها مخيلتنا ونستشعرها بحسنا وليس  عندما نراها ماثلة للعيان بالبصر فقط. وساعطيك مثالاً علي ذلك:(عندما كنت صغيراً اعيش في الريف كان مصدر معرفتنا الرئيس هو الراديو , وكنت استمع من خلاله للشعراء والفنانين يتحدثون عن جمال جزيرة(توتي) بالخرطوم,فأستمتع بهذا السرد الذي يحكونه وبنيت عليه صورة جميلة رائعة لتلك الجزيرة في مخيلتي حتي أنني إشتقت رؤيتها حقيقة وزيارتها..وبالفعل تحققت أمنيتي! إلا أن المفاجأة انني صدمت بصورة توتي(الحقيقية) غير المطابقة (للذهنية) فقلت في نفسي :ليتني لم أرها واكتفيت بما كان في رأسي
ووجداني!؟
(2)
فالخيال والوجدان أقدر علي تصوير الأشياء والأحداث من العين (ومن الكاميرا)..وعندها فقط فهمت سبب تعنت ذلك الشاعر الذي رفض أن تصور قصيدته(فديو كليب) قائلاً:(لقصيدتي آلاف الصور الجميلة في مخيلتي ووجداني , بينما ستحجم الكاميرا تلك المعاني إلي بضع مشاهد لا غير!!!).
(3)
إذا فكاميرا الخيال والوجدان أجدي في التصوير من عدسات الكاميرا ومن العين المجردة الذين لن تتعدي رؤيتهما الشيئ الواقف أماميهما..فالذين ستمتعون بقدر عال من الخيال والوجدان هم اكثر الناس إبداعاً , وأكثرهم تأثيراً علي الناس..ولعل  من الالسلبيات - في هذا القرن - إنتشار الصورة المجسمة (متمثلة في التلفزيون) علي حساب مساحة السمع(متمثلة في الراديو).
(5)
وهنا حقيقة عجيبة: فالقرآن- كما يقول سيد قطب -  إعتمد إسلوب (التصوير الفني) الذي يدور في الخيال والوجدان والحس أسلوباً أساسياً في التعبير والتأثير علي الناس , فيخيل إليك عندما تقرأ القرآن وكأنك تري أحداثه وأمثاله تحدث امام عينك..ولنأخذ مثالاً أورده سيد قطب رحمه الله في كتابه(التصوير الفني في القرآن) تعليقاً علي قول الله تعالي:"ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة..) فقال:(إن الخيال يكاد يجسم هذا (الحرف) الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس , وإنه ليكاد يتخيل الإضطراب الحسي في وقفتهم, وهم يتارجحون بين الثبات والإنقلاب , وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع باوضح مما يؤديه(وصف التزعزع) لأنها تنطبع في الحس , وتتصل منه بالنفس!!.
خلاصة القول: غنه يتوجب علينا تحجيم دور الصورة المادية في حياتنا , وإفراد مساحة (لا باس بها) للسمع ولخيالنا وحسنا الوجداني ,ونشاهد (صور) القرآن ونستشعرها بدلاً من الإكتفاء بتلاوة  آياته فقط والضياع بين جمود التفاسير..من غير أن من غير أن نستشعره .. فالأعجمي مثلاً يتذوق حلاوة القرآن من غير أن يعرف معني كلمة واحدة.

زرياب العقلي
14 يوليو 2010

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق